الغرب ليس كتلة واحدة- تنوع الرأي العام وتأثيره على السياسة تجاه غزة

"ليسوا سواء"... عبارتان موجزتان تجسدان ناموس التنوع الأصيل في صميم كل تجمع بشري، سواء كان ذا منشأ إثني، أو خلفية دينية، أو حتى توجهات أيديولوجية. فمن أبرز ما يعيق فهمنا الشامل للعالم، تلك النظرة التبسيطية التي تحصره في ثنائية الأبيض والأسود، وتغفل عن رؤية المنطقة الرمادية الثرية والتدرجات اللونية الدقيقة التي تتخلل تلك الثنائية الحادة.
يزيد الأمر تعقيدًا ذلك الإرث الثقيل المتمثل في "علاقات السلطة" المتجذرة والمعتقدات السياسية الموروثة عبر قرون طويلة في أرجاء دول جنوب وشرق المتوسط. هذا الإرث يختزل الأمة بأسرها في شخص الزعيم أو الرئيس، ليصبح هو "الأمة" و"الدولة" و"الشعب" بأكمله، بصرف النظر عن الهوية الجامعة أو المسمى الذي تحمله هذه الأمة.
تلك التراكمات التاريخية كان لها تأثير، ربما غير مباشر، في تشكيل رؤية الشعوب العربية تجاه موقف العالم الغربي، ذلك العالم المتسع والمتنوع، من العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة. هذا الموقف قد يفضي إلى تبديد الكثير من المكاسب التي تحققت في هذا السياق الحساس.
العِلمانية الغربية
من الضروري التأكيد، بوضوح لا لبس فيه، على أن الغرب ليس كيانًا مصمتًا ذا لون واحد، حتى في تفاصيله الدقيقة التي تتبع العناوين الكبرى، مثل "فصل الدين عن الدولة"، كمثال توضيحي.
فالعلمانية الغربية ليست نمطًا واحدًا متجانسًا، بل هي على صور شتى. فعلمانية ألمانيا، التي تحتفظ بـ" الوجود الرمزي للمسيحية والكنيسة كمرجعية أخلاقية وقيمية"، تختلف اختلافًا جوهريًا عن علمانية فرنسا "المتطرفة"، التي تبدي عداءً لكل ما يمت بصلة للرمزية الدينية، باستثناء هامش محدود تتسامح فيه مع العطلات الرسمية في الأعياد المسيحية.
أما علمانية بريطانيا، فتقترب إلى حد كبير من الروح التي أرسى دعائمها المفكر الإنجليزي جورج جاكوب هوليوك (1817- 1906)، والتي استقرت على نبذ النزعة العدائية للدين والوقوف على مسافة متساوية من جميع الأديان والمعتقدات.
في المقابل، ترتكز العلمانية الأميركية على مبدأ "تكافؤ الأضداد في الروح الواحدة"، مع استحضار القصص التوراتية في محاولة لتأصيل فكرة "الأمة المختارة" من الرب، كما يعتقدون.
حتى مفهوم الحداثة الغربية ذاته لا يزال محل نقاش وجدل واسع، ولا يوجد إجماع قاطع لا على تاريخ نشأته، ولا على مضمونه وجوهره. فهو مفهوم فضفاض، يكتنفه الغموض والاضطراب والسيولة، بحيث يصعب، بل يستحيل، قياسه بمعايير موضوعية محددة.
فالبعض يرى أن الحداثة بدأت مع اختراع "غوتنبرغ" للطباعة الميكانيكية عام 1436، بينما يربطها آخرون بالاحتجاجات "اللوثرية" ضد سلطة الكنيسة في عام 1520. فريق ثالث يرجح أن ميلادها الحقيقي كان مع الثورتين الأميركية عام 1776 والفرنسية عام 1789.
في المقابل، ترفض قلة قليلة كل هذه الاجتهادات، وتؤكد أن الحداثة لم تبدأ إلا مع ظهور كتاب "تفسير الأحلام" لسيغموند فرويد.
كما أن معنى الحداثة عبارة عن "فسيفساء" واسعة ومتنوعة، تضم فرقًا ومللًا ومذاهب فكرية مختلفة (هيغل، ماكس فيبر، ديكارت، لايبنتز، رولان بارت، ماركس، إميل دوركايم). إنها "حداثات" متعددة ومتباينة ومتضاربة ومختلفة، وليست "حداثة" واحدة موحدة.
السلطة الخامسة
في الوقت نفسه، لا يمكن لأي مراقب منصف أن يتجاهل وجود ما يمكن تسميته "السلطة الخامسة"، وهي قوى المجتمع المدني الناشطة خارج نطاق السياسات الرسمية للحكومات الغربية. هذه السلطة الخامسة تتصدى لتوحش الدولة وتغولها على حقوق الإنسان. فالدولة في أوروبا، وامتدادها الطبيعي في الولايات المتحدة الأميركية، ليست كيانًا واحدًا متجانسًا يختزل في رمزية "الرئيس". بل إن اتجاهات الرأي العام داخل المجتمع المدني تُعد من الأولويات في أجندة صناع القرار. وقد تتراجع القرارات السياسية الرسمية استجابة لضغوط الأحزاب والقوى السياسية المنظمة، أو حتى تلك التي تعمل خارج الأطر التنظيمية، نزولًا عند مطالبها المحقة.
على سبيل المثال، لم تكن فرنسا "في طبعتها الأهلية" موحدة في نظرتها إلى استعمار الجزائر. ففي حين ساند اليسار الفرنسي "المتطرف"، من تروتسكيين وفوضويين وإباحيين، الثورة الجزائرية بقوة، مطالبًا بتحرير الجزائر واستقلالها التام، كان اليسار الفرنسي المتمثل في (الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي) مترددًا بين الاعتراف بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره بنفسه، والإبقاء على الجزائر مرتبطة بفرنسا بشكل أو بآخر.
وتجدر الإشارة إلى الصحفي اليساري الفرنسي اليهودي "هنري علاق"، المولود عام 1920، الذي كان من أبرز الشخصيات الفرنسية التي لعبت دورًا محوريًا في توعية الرأي العام العالمي بمأساة الشعب الجزائري وحقه المشروع في تقرير مصيره. هذا الصحفي الذي طُرد وسُجن وعُذب وحُكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات لإسكاته، اختار لقب "علّاق " .. وهو لقب عائلة جزائرية مسلمة، خلال فترة نضاله، وبقي معه طوال حياته.
وبالمثل، لم تكن الولايات المتحدة الأميركية "موحدة" في موقفها من الحرب في فيتنام. بل تشكلت قوى مدنية قوية رافضة لهذه الحرب، نمت وتطورت بمرور الوقت، حتى أفضت إلى تيار اجتماعي شعبي متنامٍ. وبحلول عام 1970، لم يكن يعتقد سوى ثلث الأميركيين بأن الولايات المتحدة لم ترتكب خطأ بإرسال قوات للقتال في فيتنام. وانتهت تلك الحرب المأساوية مع الانسحاب النهائي للقوات الأميركية، بعد اتفاق "باريس" للسلام عام 1973.
ومن المفارقات اللافتة في هذا السياق ما سجلته صحيفة "نيويورك تايمز" من توازٍ بين ماضي "فيتنام" وحاضر "غزة" الآن، حيث قالت في تقرير لها: "كانت الحركة المناهضة للحرب في فيتنام ذات أغلبية ساحقة من البيض، مثل معظم الجامعات في الستينيات. إلا أن الجامعات عام 2023، خصوصًا في المناطق الحضرية، تحتوي على عدد أكبر بكثير من الطلاب الملونين، ويبدي الكثيرون منهم التعاطف مع وضع الفلسطينيين، بوصفهم سكانًا محاصرين تحت سيطرة قوة أكبر وأشد. كما أن غير الطلاب يشكلون الجزء الأكبر من المحتجين في الوقت الحاضر".
تقنيات الإعلام
بعد مرور نصف قرن تقريبًا، تغيرت مجريات الأمور بشكل كبير، وانتقلت قوى التأثير وصناعة الرأي العام من قبضة "السلطة" إلى الفضاء الإلكتروني الواسع. لم تعد الحكومات تحتكر وحدها أدوات إعادة تشكيل الوعي بما يتطابق مع رؤيتها للأحداث، بل تعددت المنصات التي تنقل الوقائع على الهواء مباشرة، سواء كانت "حكومية" أو "أهلية"، بالإضافة إلى قنوات "يوتيوب" الخاصة. وبوجود هذه الوسائل المتعددة، لم يعد بإمكان أي دولة التستر على جرائمها بحق الآخرين.
لقد جاءت الحرب على غزة في وقت يشهد هذا التحول الهائل في تقنيات الإعلام الاجتماعي، مما أدى إلى إعادة هيكلة الرأي العام الغربي ونظرته إلى القضية الفلسطينية. وتعمقت الانقسامات بين الشعوب الغربية وحكوماتها بشأن هذا الملف، وبدت صورة الغرب في تشظيه، لأول مرة، على هذا القدر من الوضوح: حكومات مؤيدة للعدوان على غزة، وأخرى مناهضة له. وفي المقابل، اتسعت رقعة الغرب الشعبي المؤيد للفلسطينيين والمعادي لـ "تل أبيب"، لتبلغ حد مشاركة أكثر من خمسة ملايين متظاهر في مدن رئيسية بأوروبا وأميركا الشمالية، في يوم واحد خلال عطلة نهاية الأسبوع الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وذلك بحسب تقديرات إعلامية محايدة وغير رسمية.
لذا، يجب الحذر الشديد من الانسياق وراء موجة الانتقاد العشوائي للغرب برمته، دون تمييز أو وعي، ومن النيل من تجربته السياسية، بكل ما تتضمنه من ديمقراطية، وتداول سلمي للسلطة، وحرية الرأي والتعبير، وما شابه ذلك، بسبب "النفاق السياسي" لأنظمته الحاكمة التي تتحرك كـ"ذيل" للولايات المتحدة الأميركية. إذ يمكن للدول التسلطية أن تستغل هذا "النفاق الرسمي" الغربي لإقناع شعوبها، خاصة الفقيرة والأقل تعليمًا وثقافة، بعدم الثقة في "الديمقراطية" كأداة لإعادة الاعتبار للإنسان وكرامته، وإعلاء إرادته وحقه في اختيار وتسمية قادته السياسيين.
هذا المسار، أي الحملة على الغرب بوصفه كتلة واحدة، سيهدر المكاسب التي حققتها غزة على صعيد "وحدة القيم الإنسانية" المشتركة للعالم، والتي جعلت الشعوب الغربية هي الأكثر تحركًا وحيوية وخروجًا إلى الشوارع رفضًا للمذابح وحرب الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون في القطاع. وتُوّج ذلك بالحدث الأهم، وهو جرجرة "تل أبيب" إلى "لاهاي" كدولة منبوذة وملاحقة من القضاء الدولي.
